من المفترض أن التعبير القائل: "نتمنى لك حياة مثيرة للاهتمام" يشير إلى لعنة صينية. وسواء كان أو لم يكن هناك صحّة لأصل هذه اللعنة، فإن قطاع الخدمات المالية يمر بالتأكيد بظروف مثيرة للاهتمام. وأفضل دليل على ذلك، ما نشهده في قطاعات الخدمات المصرفية الاستهلاكية والتجارية التقليدية التي تتطور بخطى بطيئة للغاية. تواجه الخدمات المصرفية التقليدية واحدة من أكثر التغيرات المربكة على مدى العقود الماضية. لم يشهد قطاع الخدمات المصرفية تحولاً حاسماً منذ البدء في استخدام أجهزة الصراف الآلي أو طرح الخدمات المصرفية عبر الإنترنت. وقد يرى البعض في التغير على أنه تهديد أو فرصة، ليس فقط للبنوك ولكن للمستهلكين أيضاً، والأهم من ذلك، لمنظمي الخدمات المالية الذين ينبغي عليهم معرفة كيفيةالإشراف على قطاع يتجه نحو التحول الرقمي بوتيرة متسارعة للغاية.

وخلال هذا العام، بدأت البنوك جدياً باستخدام التكنولوجيا المالية. وهذه الأخيرة تمثل الآن اتجاهاً رئيسياً نظراً لقناعة البنوك بأن أنظمة الدفع الرقمية ستنتشر على نطاق واسع وباعتبار أن التكنولوجيا التنظيمية  -  التي تسخّر التكنولوجيا لإنجاز مهام إدارة المخاطر التنظيمية - تساعد في تقليل تكاليف الامتثال التي تفاقمت بشكل كبير منذ الأزمة المالية العالمية. السلطات التنظيمية تمضي نحو تطبيق تلك التقنيات، وذلك من خلال استكشاف الطرق لاستخدام التكنولوجيا الإشرافية  – التي تستفيد من التكنولوجيا لمساعدتها في الإشراف على ومراقبة المؤسسات المالية والأسواق – لتنظيم أكثر فاعلية وكفاءة.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما الذي ينتظر قطاع الخدمات المالية في دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2018 المثير للاهتمام؟ هناك التكنولوجيا المالية والبنوك المنافسة والذكاء الاصطناعي والمشورة الآلية والتكنولوجيا التنظيمية والتكنولوجيا الإشرافية، وهي ليست سوى بعض من التغييرات التي سنتعرّض لها.

تستأثر التكنولوجيا المالية حاليا بالاهتمام الأبرز في قطاع الخدمات المالية. وتعدّ دولة الإمارات العربية المتحدة بلا ريب المركز الإقليمي الرائد في مجال تطبيقات التكنولوجيا المالية. هل هذا كله ضجة سرعان ما يخبو صخبها، أم أن التكنولوجيا المالية ستغيّر بالفعل قواعد اللعبة؟ هناك أمران ينبغي ملاحظتهما:

أولا، هناك دائما فترة زمنية فاصلة بين الابتكار التكنولوجي والتغيير التقني الفعلي الذي من المفترض أن ينتج عن الابتكار. مثال ذلك أن الهواتف الذكية قد تم تخيلها لأول مرة قبل سنوات من طرح هاتف "آي فون" في يناير من عام 2007. وبالتالي، فإن الأثر الحقيقي اليومي للتكنولوجيا المالية لا يزال يحتاج إلى سنوات عديدة لكي يبدأ المستهلكون بتحسس تأثيرها.

ثانيا، لقد علمتنا فقاعة الدوت كوم التي حدثت مطلع العام 2000 بأن عدد الشركات الناشئة التي أخفقت يفوق بكثير تلك التي حققت النجاح في الفضاء الإلكتروني، مثل " AOL" و"Pets.com" و"Beenz" (عملة افتراضية – ألا تبدو مألوفة؟) و"Global Crossing" والمزيد غيرها. جميع هذه الشركات أعلنت إفلاسها أو تم بيعها وفق تقييمات أقل بكثير من ذروة شركات الدوت كوم. كما فقد مؤشر ناسداك 78% من قيمته إثر إنهيار شركات الدوت كوم. إلا أن العديد من الشركات استعادت عافيتها وهي اليوم في عداد كبرى الشركات العالمية، مثل "الأمازون" و"جوجل" و"أبل". وبهذا يمكننا الاجماع بأن الفقاعات تنمو بسرعة، ولكنها عندما تنفجر، لا يتمكن سوى عدد قليل من الشركات في البقاء.

لذلك، قبل أن يكون للتكنولوجيا المالية أي تغييرات ملموسة على قطاع الخدمات المالية، من المؤكد أننا سنشهد الكثير من الدعاية والمضاربة. والمزيد من الشركات الناشئة المختصة في مجال التكنولوجيا المالية سيكون نصيبها من الفشل أكبر من حظها في النجاح وستفقد جزءاً كبيراً من قيمتها. وهذا كله يندرج في إطار عملية التغيّر المربك. وجاء استخدام أجهزة الصراف الآلي والخدمات المصرفية عبر الإنترنت في كلتا الحالتين مصحوباً بمزاعم تنبئ بانتهاء عهد الصرافين والفروع على التوالي. وبالمثل، نشأ عن طرح التكنولوجيا المالية أقاويل لا حصر لها في وسائل الإعلام في الشرق الأوسط بشأن احتمال فقدان عدد هائل من الوظائف في القطاع المصرفي، وفي حالة العملات الرقمية المشفرة، انتهاء دور البنوك كوسطاء ماليين. ومن غير المرجح لأي من السيناريوهين أن يتحققا، إذ إن أي  تغييرات من هذا النوع ستستغرق سنوات وليس أشهر.

وفي الوقت ذاته، سيتطلع رواد الأعمال في الشرق الأوسط إلى طرح أفكارهم المتعلقة بالتكنولوجيا المالية في السوق. ومما لا يدركه الكثيرون هو أن معظم أنشطة وممارسات التكنولوجيا المالية تنضوي تحت مظلة البيئة التنظيمية. ولاحاجة بنا إلى القول بأن الجوانب الخاضعة للتنظيم قد تحول الأفكار النظرية المتميزة إلى كابوس من البيروقراطية المكلفة. ومن حسن حظ رواد الأعمال أن السلطات التنظيمية للمنطقة الحرة المالية في دولة الإمارات العربية المتحدة بمركز دبي المالي العالمي، وفي سلطة دبي للخدمات المالية وسوق أبوظبي العالمي وسلطة تنظيم الخدمات المالية، قد وضعت قواعد تنظيمية لبرامج مسرّعات التكنولوجيا المالية في مناطقها الحرة. توفر "FinTech Hive" في مركز دبي المالي العالمي و "RegLab" في سوق أبوظبي العالمي، قواعد تنظيمية سلسة لشركات التكنولوجيا المالية الناشئة لمساعدتها على اختبار تقنياتها من دون تحمل أعباء التكاليف المالية الناشئة عن الحصول على ترخيص كامل لتقديم الخدمات المالية.

إن أفكار التكنولوجيا المالية التي ستستمر وتتبلور ستوفر للمستهلكين منافع من خلال خفض تكاليف المعاملات في مجالات مثل صرافة العملات الأجنبية والتجارة عبر الإنترنت. وبالنسبة للبنوك، فإن لدى التكنولوجيا المالية والتكنولوجيا التنظيمية إمكانات هائلة لخفض التكاليف. توفر السجلات الموزعة والاستشارات الآلية ومعاملات الدفع الرقمية والذكاء الاصطناعي فرصا لمجموعة واسعة من التطبيقات. وفي مجال مكافحة غسيل الأموال، قد يكون لمزايا المصادقة عن طريق التحقق من هوية العميل ومعلومات التعريف الحيوية ومفاتيح التشفير العامة / الخاصة دوراً حاسماً في تغيير قواعد اللعبة. نتوقع نمواً محتملاً في عدد التطبيقات.

بالرغم من أن معظم الابتكارات الهائلة ستكون ناشئة عن القطاع، إلا أنه، بالنسبة للجهات التنظيمية، قد تساهم التكنولوجيا الإشرافية في إدخال تحسينات مهمة على الطريقة التي تتولى تلك الجهات التنظيمية من خلالها الإشراف على المؤسسات المالية والرقابة على الأسواق المالية. وبالمثل، فإن التكنولوجيات ذاتها التي تؤثر في قطاع الخدمات المالية قد يكون لها أيضاً دور في إتاحة مزايا رقابة أكثر كفاءة وفاعلية في القطاع. تستمد الجهات التنظيمية تمويلها عملياً عن طريق مزيج من الصناديق الحكومية ودخل الرسوم في القطاع. والملاحظ بأن القيام بعملية التنظيم في إطار الميزانية المرصودة وكذلك التكيف مع المتغيرات المتسارعة التي يشهدها القطاع في وقتنا الراهن يشكل ضغوطات ينبغي عدم التقليل من شأنها. وبإمكان التكنولوجيا الإشرافية الاستفادة من تكنولوجيات أخرى مثل تحليلات البيانات والذكاء الاصطناعي للتوصل إلى فهم أفضل للقطاعات الخاضعة لرقابة المنظمين ولتقليل الحاجة إلى الزيارات الميدانية، وفي نهاية المطاف، توفير التكاليف بالنسبة للجهات التنظيمية.

لاتزال التكنولوجيا الإشرافية في مراحلها الأولية، إلا أنه من المنطقي التكهن باحتمال أن تتيح هذه التكنولوجيا، في المستقبل القريب، مستوى عال من القدرات الرقابية والإشرافية على الأسواق والمؤسسات المالية، بل من الممكن لها كذلك أن تجعل من إدارة المخاطر والتدخل والإنفاذ مسألة قائمة على أسلوب الفعل بدلاً من رد الفعل. وقد يكون هذا تصوراً يبعث على القلق بالنسبة للمؤسسات المالية. ومع ذلك، سوف تتطلب التكنولوجيا الإشرافية  قدرا كبيرا من الاستثمار والاختبار قبل البدء بتطبيقها فعلياً من قبل الجهات التنظيمية. تحقق سلطة دبي للخدمات المالية وسلطة تنظيم الخدمات المالية أداءً جيداً جداً من حيث المساعدة في خلق بيئة تنظيمية من شأنها التشجيع على استخدام التكنولوجيا المالية في دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد وضعت كلتا الجهتين التنظيميتين قواعد تنظيمية ملائمة وهي تتبع نهجاً يتماشى مع جوهر التغير التكنولوجي مع الانفتاح على مخاطر التكنولوجيا التي يواجهها المستهلكون والقطاع على حد سواء. ومع ذلك، فإن سلطة دبي للخدمات المالية وسلطة تنظيم الخدمات المالية (وغيرها من الجهات التنظيمية الأخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة) ستكون بحاجة اليوم للاستفادة من وتبني التكنولوجيا المالية لتجنب مخاطر التأخر عن مواكبة التطورات المتسارعة. كما ينبغي على السلطات التنظيمية أن تتطور من أجل الحفاظ على مجموعة الأدوات التنظيمية المناسبة لمعالجة التغييرات التي ستطرأ على قطاع الخدمات المالية نتيجة تطبيق التكنولوجيا المالية.

المؤلف: ماثيو شاناهان، وهو شريك في بيكر مكنزي. حبيب الملا، إدارة الممارسات المصرفية والمالية بمقره في دولة الإمارات العربية المتحدة.

© Opinion 2018