زاوية  عربي     

 

العالم  ما  قبل  كوفيد-19   

لأعوام عديدة قبل هذا العام - الذي تغير فيه كل شيء-  كانت توصيات المنظمات الدولية واغلب الخبراء للدول التي تريد بناء او اصلاح سياستها المتعلقة بالأغذية والزراعة هي انه على تلك الدول ان تسعى إلى تحقيق الأمن الغذائي وليس الاكتفاء الذاتي من الغذاء أو حتى نسبة عالية منه وذلك لاعتبارات اقتصادية ومناخية وتقنية.      

الأمن  الغذائي،  ما  هو  وما  الفرق  بينه  وبين  الاكتفاء  الذاتي؟  

هناك فرق كبير بين مفهومي الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من الغذاء. فالاكتفاء الذاتي من الغذاء يعني ببساطة ان يقوم بلد معين بإنتاج ما يحتاجه من الغذاء محليا. اما الأمن الغذائي فانه يتحقق فى بلد معين عندما يتوفر لجميع الناس، في جميع الأوقات، كميات من الغذاء والقدرة الاقتصادية للحصول عليه، كما يشترط في هذا الغذاء ان يكون كافي وآمن صحيا ومغذي يلبي الاحتياجات الغذائية والتفضيلية للسكان ليمكنهم من ان يحيوا حياة آمنة وصحية.     

اذا الأمن الغذائي يركز على توفير الغذاء وليس انتاجه بالضرورة، اذ يمكن الحصول عليه من بلاد أخرى تتميز في إنتاج أصناف معينة من الغذاء.    

الوضع  الحالي - ما  بعد  كورونا    

 ما يشهده العالم حاليا مع التغيرات المصاحبة ل كوفيد-19 يلقى بظلال من الشك على سلامة منطق تبني مفهوم الأمن الغذائي في بناء او اصلاح سياسات الأغذية والزراعة وبالتحديد فاعلية ومتانة سلاسل أمداد الغذاء العالمية.    

حيث ان الآثار المتوقعة ل كوفيد-19 على سلاسل إمداد الغذاء العالمية تشمل نقص في العمالة الزراعية اللازمة لإنتاج و تصنيع الأغذية، زيادة العقبات أمام المزارعين للوصول إلى الأسواق، تقييد حركة النقل مما يعيق وصول الأغذية إلى الأسواق، ونقص المعروض من السلع سريعة التلف.    

ولعل الإغلاق المؤقت لمصانع اللحوم العملاقة مثل سميثفيلد تايسون فودز في الولايات المتحدة الأمريكية وكارجيل في كندا نتيجة انتشار حالات كوفيد-19 بين العمال خير مثال على إمكانية نقص المعروض من السلع الغذائية في الدول المصدرة لها وهذه الدول بدورها قد تقيد حركة التصدير من أجل توفير السلع لمواطنيها أولا.    

ومن هنا يجب على الدول التي تعتمد على الاستيراد لتوفير السلع الغذائية - مثل معظم دولنا العربية -إعادة تقييم سياساتها ومحاولة إيجاد بدائل محلية بقدر الإمكان وان تحاول جديا وسريعا زيادة اكتفائها الذاتي من السلع الأساسية.         

موقف  الدول  العربية    

ان الدول العربية في مجموعها تعتمد على استيراد السلع الغذائية بدرجة كبيرة.    

وذلك يرجع إلى عدة أسباب، من أهمهما قلة الموارد الطبيعية المؤهلة للإنتاج الزراعي مثل المياه العذبة والتربة الصالحة للزراعة بالإضافة إلى درجات الحرارة المرتفعة في أشهر الصيف في بعض البلاد ومعدل النمو السكاني الكبير الذي تشهده بعض البلاد أيضا.    

فان أحدث الدراسات التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 2017 حول آفاق تعزيز الأمن الغذائي في العالم العربي والتي تستعرض الوضع المحتمل للغذاء والزراعة في المنطقة في عام 2030 أشارت إلى ان نسب الاكتفاء الذاتي من بعض السلع الغذائية في العالم العربي كانت متدنية في الفترة ما بين 2014 و 2016 وحتى هذه النسب المتدنية مرشحة للتناقص بحلول عام 2030.     

فعلى سبيل المثال في 2017 بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب بأنواعها حوالي 34%، ومن السكر حوالي 28%، وأقل من 20% بالنسبة للزيوت النباتية بأنواعها.    

بينما جاءت نسبة الاكتفاء الذاتي من الألبان ومنتجاتها مرتفعة بحوالي 83%، وكذلك اللحوم بأنواعها جاءت نسبتها جيدة بنحو 66%.  

ماذا  تقول  لنا  الأرقام؟    

البلاد العربية تختلف فيما بينها في معدلات الاكتفاء من الغذاء طبقا لمواردها الطبيعية. فعند احتساب نسب الاكتفاء الذاتي لمصر من واقع بيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، نجد ان مصر – باستثناء القمح - تتمتع بنسب اكتفاء ذاتي مرتفعة من الأرز (98%) ومن لحوم الدواجن (91%) ومن الألبان (86%) ومن لحوم الأبقار (79%) وجيدة - رغم انها غير كافية - من القمح (45%) وذلك في عام 2017.      

بينما نجد ان الكويت وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة تعتمد بشكل كلي على استيراد الأرز و القمح ومنتجاتهما.    

اما في المملكة العربية السعودية فتبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح 16% ومن الأرز 0 بالمئة.    

في بلدان مجلس التعاون الخليجي يبدو الوضع أفضل بالنسبة لبعض منتجات اللحوم والألبان.    

بالنسبة للحوم الأغنام تصل نسبة الاكتفاء الذاتي 76% في السعودية، 75% في عمان، 73% في الكويت و54% في الإمارات.    

اما بالنسبة للحوم الدواجن فتصل نسبة الاكتفاء الذاتي 46% في السعودية، 29% في الكويت، 10% في الامارات و5% في سلطنة عمان.    

وبالنسبة للألبان فقد طورت دول مجلس التعاون الخليجي بعض الطاقات لإنتاج الألبان وذلك من خلال تشجيع ودعم القطاع الخاص - كما في السعودية و قطر والإمارات - للتوجه للاستثمار الموجه و المكثف فى صناعات الألبان. وبدوره قام القطاع الخاص بتبني تقنيات متطورة لأنشاء صناعات ألبان ذات كفاءة جيدة. وكنتيجة لذلك نجد ان نسبة الاكتفاء الذاتي من الألبان ارتفعت  في نفس العام الذي نتحدث عنه - 2017 - إلى 82% في السعودية، 39% في عمان، 26% في الكويت، و23% في الإمارات.  

الأسباب 

التباين في نسب الاكتفاء الذاتي من الغذاء في الدول العربية يعود لعدة أسباب. 

فعلى سبيل المثال يمكن ان نعول نسب الاكتفاء الذاتي المرتفعة نسبيا في مصر الى توافر طبيعية الأراضي الزراعية الخصبة و مياه الري و درجات الحرارة الأقل حدة وكذلك توافر رأس المال البشري من علماء و كوارد و عمالة زراعية بالإضافة الى تراكم الخبرات و الاستثمار في مجال الابحاث الزراعية. فقد تمكن علماء تربية المحاصيل في مصر في تسعينات القرن الماضي من انتاج أصناف قمح و أرز كانت هي الأعلى انتاجية على مستوي العالم.  

بينما يرجع الانخفاض في نسب الاكتفاء الذاتي في بعض المحاصيل في مصر -مثل البذور الزيتية المستخدمة في انتاج زيوت الطعام- الى محدودية الأراضي الزراعية عند مقارنتها بعدد السكان. ولكن من المتوقع ان يساهم الاستثمار في مجالات الأبحاث الزراعية في تحسن مستمر في نسب الاكتفاء الذاتي من تلك المحاصيل.   

المستقبل

أن لكل بلد عربي ظروفه الخاصة المتعلقة بالموارد الطبيعية والظروف المناخية والقدرات الاقتصادية، ولذلك فانه يصعب تخيل سياسة غذائية وزراعية موحدة لكل البلاد العربية.    

ومن المنطقي ان تسعى البلاد التي لديها موارد طبيعية تمكنها من الإنتاج الزراعي مثل مصر من تعظيم كفاءة استخدام مواردها لتحقيق نسب اكتفاء ذاتي مرتفعة من الغذاء.    

اما البلاد العربية التي تفتقر للموارد الطبيعية الملائمة للإنتاج الزراعي و لديها قدرات اقتصادية مرتفعة مثل دول مجلس التعاون الخليجي، فمن الملائم ان تعتمد سياستها الغذائية و الزراعية على محورين رئيسيين:    

الأول هو زيادة نسب الاكتفاء الذاتي من السلع سريعة التلف مثل الخضروات و الفواكه ومنتجات اللحوم الطازجة و البيض و الألبان و منتجاتها، ومن الجدير بالذكر ان دول المجلس لها تجارب ناجحة في فعل هذا. فمثلا استطاعت السعودية زيادة نسب الاكتفاء الذاتي من اللحوم والألبان بينما استطاعت قطر زيادة نسب الاكتفاء الذاتي من الألبان و الخضروات خلال الثلاثة أعوام السابقة.  

اما الثاني فهو زيادة السعة التخزينية للسلع الغذائية الغير سريعة التلف مثل الحبوب و البقوليات الجافة بأنواعهما. وهناك بعض المحاور الأخرى مثل دعم التصنيع الزراعي لتعظيم الاستفادة من المنتجات الخام المحلية مثل تصنيع اللحوم والألبان والتمور وكذلك بناء قدرات وكفاءات بشرية محلية ولكن يبقى العامل المهم والمشترك بين أغلب المحاور هو تبني أساليب وحلول تكنولوجية مبتكرة لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة.    

والنصيحة العامة للكل أو الدرس المستفاد من التجربة الحالية هو ان الدول العربية يجب ان تزيد معدلات انتاجها واكتفائها الذاتي لأن توفير الغذاء عن طريق الاستيراد قد يتوقف لأي سبب طارئ آخر قد -مثل أزمة  كورونا- يأتي في أي وقت ومن أي مكان.  

لقراءة مقال سابق لعبد السميع  

المياه والدول العربية.. ماذا تقول لنا الأرقام والتجارب الحديثة؟ 

*تم التواصل مع عبد السميع عبر موقع WriteCaliber 
(تحرير ياسمين صالح، yasmine.saleh@refinitiv.com) 

 
© Opinion 2020 

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية 
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:  
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.