يبدو أن أسعار النفط عرضة للتذبذب خلال عام 2018، وفقاً لجملة تقارير متخصصة تؤكد أن هناك نزاعاً قوياً بين الجهات الضاغطة لخفض الأسعار، وأخرى راغبة برفعها أو تماسكها بين 65 و75 دولاراً للبرميل. فمعظم الدول المنتجة، وبينها الكويت، ترغب بأسعار تستطيع معها تحقيق التوازن المالي في موازناتها السنوية، كي لا تقع في عجز أو عجز كبير.
وعانت الكويت خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ النصف الثاني من 2014 حتى أواخر العام الماضي 2017، من عجوزات تراكمت وأدت إلى استنزاف الاحتياطي العام، الذي هبط من نحو 46 مليار دينار إلى 26 ملياراً. لكن ومنذ بداية السنة المالية الحالية 2019/2018 تحسنت الأوضاع مع متوسط سعر برميل بين ابريل وأكتوبر الماضيين، بلغ نحو 72 دولاراً، وبذلك حققت الموازنة فوائض نسبية، يرجح أن تنخفض قيمتها بعدما هبط سعر البرميل في نوفمبر الماضي وأوائل ديسمبر الجاري.
وأكدت مصادر مالية لــ القبس تراجع السحب من الاحتياطي العام هذه السنة، مشيرة إلى أن الاحتياطيات حتى نهاية أكتوبر الماضي يفترض انها بلغت 197 مليار دينار، أي نحو 650 مليار دولار. وذلك بعدما كانت 155 مليار دينار لاحتياطي الاجيال، و26.5 ملياراً للاحتياطي العام مع نهاية مارس الماضي. وبإضافة حصة احتياطي الاجيال من الايرادات البالغة %10، وافتراض استمرار تحقيق نحو %10 عائدات من صندوق الاجيال، وبإضافة الاحتياطي العام، بافتراض استمرار تحقيقه نحو %2 عوائد، فإن الاجمالي المتوقع، كما في نهاية اكتوبر الماضي، وفقاً لمصادر مالية مناسبة، يبلغ 196 إلى 197 مليار دينار، منها %88 للأجيال، والباقي للاحتياطي العام، وتشير المصادر الى أن هذه الأرقام المتوقعة عرضة للتغيير من الآن حتى نهاية السنة المالية، وذلك تبعاً لتطورات أسعار النفط، كما تبعاً لأرقام الإنفاق العام المقدر في الموازنة بنحو 21.5 مليار دينار.
واستطلعت القبس آراء أصحاب اختصاص للوقوف عن كثب على جملة قضايا متعلقة بالفائض والعجز وترشيد الإنفاق العام وسعر التوازن في الموازنة ومشروع قانون الدين العام، وغيرها من القضايا المطروحة بين الحين والآخر على هذه الصعد. وكانت الآراء التالية متقاطعة على النحو الآتي:

1 – نزاع الفائضين والعاجزين

هناك من يعتقد بأن العجز الذي أعلنته الحكومة خلال السنوات الماضية ليس دقيقاً. لا، بل يذهب البعض إلى القول إنه كانت هناك فوائض. وحجة المشككين أن احتساب إيرادات الاستثمار وإدخالها في الموازنة يجعل الأخيرة تتمتع بفوائض. ويستند هؤلاء في تثبيت هذا الرأي إلى تقارير لصندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الائتماني ومصادر دولية أخرى كانت وما زالت تشير إلى فوائض في موازنة الكويت عند إضافة الإيرادات النفطية وغير النفطية إلى الايرادات من الاستثمار، وتحديداً استثمارات صندوق الأجيال. وهذا ما ترفضه الحكومة أو لا تعترف به، لأن صندوق الأجيال وعائداته ليست للصرف على الحاضر، بل هي كما اسمها مخصصة للمستقبل، وتحديداً لمرحلة نضوب النفط لانه أصل ناضب في نهاية الأمر. وذلك معزز بنصوص قانونية وممارسات تاريخية لا حياد عنها.
في المقابل، تأخذ الحكومة بما يرد في تلك التقارير، لا سيما عبارات تتعلّق بقوة «المصدات المالية»، أي الاحتياطيات التي تسمح بالتدرج في الإصلاح المالي، وتحديداً زيادة الإيرادات غير النفطية وضبط الإنفاق الجاري وإصلاح سوق العمل وغيرها من البنود الصعبة التنفيذ التي تلقى معارضة لا تقوى الحكومة أحياناً على مواجهتها. لذا، تتعثر جهود الإصلاح وبرامج الاستدامة في بعض محاورها الأساسية. وأمام هذا التعثر، إن لم نقل العجز عن الإصلاح، تتسلح الحكومة بما يرد في تقارير دولية لجهة أن في الوقت متسعاً لطالما تتمتع البلاد بمئات المليارات من الدولارات في احتياطياتها عموماً وصندوق الأجيال خصوصاً. ويرى متابعون في ذلك تناقضاً ما بين رفض إدخال عوائد الاستثمارات في أرقام الموازنة وبين الاتكال، ولو نظرياً، ع‍لى تلك الاستثمارات لكسب المزيد من الوقت قبل أن تأزف ساعة حقيقة الإصلاح بالإجراءات المرة الآتية عاجلاً أم آجلاً، وفقاً لأصحاب الاختصاص كما وفقاً لوزير تحدثت إليه القبس ورفض الكشف عن اسمه، لأن ما يقوله «يثير الشارع وبعض النواب»، كما يؤكد عن سابق خبرة!
إلى ذلك، يحتار المتابعون كيف يتعاطون مع الأرقام أحياناً، فمن جهة تؤكد مصادر دولية مرموقة أن موازنة الكويت تحتاج برميلاً بـ48 دولاراً فقط، مقابل 65 – 67 دولاراً وفقاً للأرقام الحكومية اعتماداً على المستوى الحالي للإنفاق.

2 – نقترض / لا نقترض!

الجدل مستمر بين أطراف حكومية وأخرى نيابية حول جدوى إقرار قانون جديد للدين العام. ترغب الحكومة في ذلك لجملة أسباب أبرزها أن يكون بيدها تشريع تستطيع الاعتماد عليه للاقتراض عند الحاجة، أي عندما تنخفض أسعار النفط وتقع الموازنة في عجز. ولها في ذلك أيضاً هواجس من نضوب الاحتياطي العام إذا لم يقر هذا القانون. فالسنوات السابقة التي شهدت عجوزات فرضت سحوبات من الاحتياطي العام لتمويل العجز. وتشير المصادر الحكومية إلى إمكان نضوب ذلك الاحتياطي في سنوات قليلة، كما أنها كانت تؤكد أن الاقتراض أفضل لأن الفوائد متدنية مقابل ما يمكن تحقيقه من عوائد من استثمارات الاحتياطي العام. واختلف المتابعون حول ذلك بقوة، حتى تدخل ديوان المحاسبة وأكد أن عوائد الاحتياطي أدنى من الفوائد التي تدفعها الحكومة على سندات الدين المحلي التي تكتتب بها مصارف الكويت والسندات الدولية التي طرحتها الكويت في الخارج.
وكرر ديوان المحاسبة تحذيره أكثر من مرة من التوسع في الاقتراض، مشيراً إلى أن الاحتياطي العام لا يدر عوائد أعلى من فوائد الاقتراض، إذ كان متوسط ذلك العائد السنة الماضية %2.4 وفي 5 سنوات كان %1.7 فقط، في حين أن السندات التي طرحتها الكويت في الخارج فوائدها %3.4، مع الإشارة إلى أن ديوان المحاسبة يركز على تدني عوائد الشق السائل في الاحتياطي العام والبالغ أكثر من %40 من الإجمالي.
في المقابل، شجع بنك الكويت المركزي الحكومة على الاقتراض، وكان له رأي يرقى إلى نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي مفاده أن عوائد الاحتياطي العام بين %5 و%6 في حين أن فوائد السندات %3.4، أي أن الأفضل للكويت أن تقترض في حال عجز الموازنة لأنها ستدفع فوائد أقل مما تحققه من عوائد استثمارات الاحتياطي العام.
وكما هو ملاحظ، هناك تعارض في الموقف بين البنك المركزي وديوان المحاسبة، لا بل هناك فارق في الأرقام أيضاً. فمن نصدق؟
أشار مراقبون في هذا الصدد أولاً إلى أن بنك الكويت المركزي يعتبر المستشار المالي والاقتصادي للحكومة، وهو الأدرى بالشؤون النقدية والمصرفية والمالية، لذا يجدر الأخذ برأيه. وأصحاب هذا القول يشيرون أيضاً إلى أن ديوان المحاسبة ليس صاحب اختصاص في شؤون الاقتراض من عدمه.
أما أصحاب الرأي المخالف فيؤكدون أن ديوان المحاسبة معني أيضاً بالحفاظ على المال العام، وهو لم يعط رأياً ارتجالياً، بل وضع تقارير بناء على طلب حكومي وبرلماني، وتعتبر تقاريره ذات مصداقية عالية، وهي الفيصل غالباً في كثير من القضايا الجدلية.
لذا، وبناء على ما سبق، فإن حيرة المراقبين لا تنقص بل تزداد.. فمن نُصدق؟!
لكن رغم السؤال المحيِّر، يمكن أن نجد ما يجمع «المركزي» و«الديوان» لأنهما معاً يحذران من الاقتراض للإنفاق الجاري، ويؤكدان ضرورة بذل المزيد من الجهد المالي في سبيل ضبط الإنفاق الجاري وتعزيز الإنفاق الاستثماري والتنموي لتنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل للمواطنين وتحسين بيئة الأعمال ورفع درجة التنافسية الاقتصادية، والحفاظ على التصنيف الائتماني المرموق لدولة الكويت علماً أن دون الحديث عن ضبط الإنفاق الجاري محرمات الدعم والرواتب.

3 – في جانب النواب

في جانب النواب يتكرر ما يلي: لا عجز في الموازنة، لا داعي للاقتراض، على الدولة تحصيل مستحقات لها متأخرة السداد هنا وهناك. ويذهب بعض النواب إلى التوسع في مطالبات مالية شعبوية لإرضاء ناخبين، وهناك من يفسر الدفع باتجاه التقاعد المبكر على أنه انتخابي وشعبوي، حتى لو كان مكلفاً للمؤسسة العامة للتأمينات، التي لا تترك مناسبة إلا وتذكِّر بخطر العجز الاكتواري.
ويأتي ديوان المحاسبة ليضع ماءً في بعض طواحين النواب، مثل الوارد في التقرير الأخير لجهة أن الأموال المستحقة للحكومة ولم تحصلها تبلغ 1.33 مليار دينار، وهي مقابل خدمات تقوم بها الجهات الحكومية للأفراد والمؤسسات، وقد تكون بينها مبالغ على الموظفين ناتجة عن خطأ أو زيادة في الصرف.
ومعظم تلك تعود إلى: وزارة الداخلية (مخالفات مرورية ومديونيات أخرى)، وزارة التعليم العالي (مبالغ مستحقة على الطلبة)، وزارة الكهرباء والماء (فواتير استهلاك لم تدفع)، وزارة العدل (غرامات ورسوم قضائية) ووزارة الصحة (مبالغ مستحقة على التأمين والضمان الصحي ومصاريف العلاج في الخارج). ورب سائل بين المصادر التي استطلعت القبس رأيها: كيف للحكومة أن تطلب الاقتراض، أو تطلب فرض الضرائب، إذا كانت غير قادرة على تحصيل ما لها من الأموال؟! وتضيف: أوليس من الأجدى أن تُحصِّل مستحقاتها أولاً وأن تضغط نفقاتها قبل أن تتوسع في الاقتراض أو تبالغ في السحب من الاحتياطي العام، وقبل أن تذهب في اتجاه فرض الضرائب وزيادة الرسوم؟! أكثر من ذلك، هناك من يؤكد أن الحكومة تتساهل في تحصيل حقوق أخرى لها، مثل الأرباح المحتجزة لدى جهات حكومية، وهي حق لميزانية الدولة، وتفصيل ذلك ذهب به نواب مثل رياض العدساني الذي أكد أن هناك 20 مليار دينار منها 4 مليارات دينار لدى مؤسسة البترول التي عليها تحويلها إلى الخزانة العامة وتتخلف عن ذلك منذ سنوات طويلة، وردت وزارة المالية بالقول أن الأرباح المحتجزة لدى الهيئات التابعة والمستقلة تبلغ 4 مليارات دينار فقط. اياً كان الأمر، أو ليس من الأجدى أن تحصل الدولة لخزانتها تلك المليارات قبل التوسع في الاقتراض وفرض الضرائب والرسوم؟!
إلى ذلك، تضيف المصادر عينها ما بات يسمى ب‍ـ«حساب العهد»، أي المبالغ التي صرفت ولم تدخل في الحسابات الختامية للموازنات، إذ تضخمت تلك «العهد» لتبلغ نحو 6 مليارات دينار حتى بداية العام الحالي، مع الإشارة إلى أن هناك مبالغ صرفت بالتجاوز، وأخرى مقيدة منذ سنوات ولم يحصل لها تدقيق نهائي بعد. وفي هذا الصدد أيضاً مأخذ على الحكومة، إذ كيف لها الاستمرار على هذا النحو في إدارة المال العام، ثم تأتي لتقول إن في الميزانية عجزاً.

خلاصة

للمصادر الحكومية ردود على معظم ما سبق ذكره، وهي إذ لا تنكر تلك الحالات إلا أنها تشكك في دقة بعض الأرقام، وتندد بما يقال من حق يراد به باطل، وفقاً لتعبير وزير معني، وتشير المصادر الرسمية إلى جملة حقائق كالآتي:
• لا مفر من وضع انخفاض النفط في الحسبان دائماً، وأي تأجيل للإصلاح ليس إلا بسبب المعارضة الشعبية والبرلمانية التي تؤجل تجرع الكأس المرة فقط، وبسبب تردد حكومي خوفاً من اشعال أزمة سياسية واجتماعية.
• لا بد من ضبط المالية العامة، وهذا ما بدأت بصدده ورشة واسعة النطاق.
• التأزيم السياسي بين حين وآخر بسبب استجوابات معينة يضع البلاد في أجواء تضيع فيها أولويات الإصلاح المالي والاقتصادي.
• لا لإدخال دخل أو عوائد صندوق الأجيال في الميزانية العامة للدولة. فما هو للأجيال يبقى لهم، وتلك هي الحصافة بعينها.
• سواء سمح النواب بإقرار قانون جديد للدين العام أو رفضوا ذلك، فإن الواقع يبقى كما هو؛ أي استنزاف الاحتياطي العام للدولة في كل مرة يحصل فيها عجز موازنة، وهكذا حتى ينضب ذلك الاحتياطي، علماً بأن عدم نضوبه أفضل لملاءة الدولة وتصنيفها الائتماني.
• تتغير المعادلات بسرعة، فما كان متاحاً قبل سنة أو سنتين لم يعد كذلك الآن، وإذا كان لابد من مثال على ذلك فهو ارتفاع أسعار الفائدة عدة مرات في سنتين، والمرجح ارتفاعها أيضاً في 2019، مما يعني أن المقارنات بين فوائد الدين العام وعوائد الاستثمارات ستكون أصعب حتماً وستتعقد أكثر بحساب التضخم أيضاً.
• لا حياد عن زيادة الإنفاق التنموي والاستثماري؛ لأنه الوحيد الضامن للنمو الاقتصادي والقادر على المساعدة في تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، وإدمان إيراداته.
• تبقى الإشارة أخيراً إلى أن الكويت ليست جزيرة معزولة عن العالم، ومقارنتها بدول الخليج الأخرى هي أفضل مقاربة لجملة قضايا، ومن بينها الإنفاق والادخار والاستثمار والاقتراض، وغير ذلك من البنود التي تطرح قضاياها دورياً على مستوى دول الخليج التي هي جميعاً في قارب واحد. قارب النفط وتقلبات بحر أسعاره وموج أهميته الجيواستراتيجية؛ محلياً وإقليمياً ودولياً.

© Al Qabas 2018