لقراءة الجزء الأول: القطاع المصرفي وامتحان فبراير: بين ضمان الودائع ومصير المصارف 

عودة القطاع المصرفي الى الحياة في لبنان تتطلب استعادة الثقة المفقودة حتى يتمكن من استعادة دوره في الحياة الاقتصادية. هذه الثقة ما زالت معلقة على خطة الإنقاذ الحكومية حيث ما زالت العديد من التعقيدات تنتظر الحل وبالأخص عملية تحديد الخسائر في القطاع المالي وكيفية توزيعها على الأطراف كافة والاتفاق مع صندوق النقد الدولي. بانتظار حلحلة هذه الأمور يحاول المصرف المركزي ان يلعب دوره التنظيمي مرة بجزرة إعادة الرسملة ومرة أخرى بعصا إعادة الهيكلة.   

التحدي الأكبر.. إعادة هيكلة القطاع 

التحدي الوجودي الأكبر يتمثل بالقدرة على إعادة هيكلة القطاع، وهي عملية شمولية تبدا بالتقييم العلمي والحقيقي لأصول وواقع كل مصرف، ثم تحديد قابلية كل مصرف للاستمرار من عدمه وتنتهي بعمليات الدمج والاستحواذ. 

بناء على الدراسات، ستتم عملية دمج المصارف المتعثرة مع المصارف التي تتمكن من إعادة الرسملة. ولكن العبرة تبقي في التنفيذ خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان المصارف لم تمتثل سابقا لقرارات البنك المركزي في ما يختص بالطلب منها رفع رساميلها.    

الجدير بالذكر هنا ان البنك المركزي قد اصدر مذكرة إدارية في يوليو من العام الماضي تفيد بإنشاء "لجنة  إعادة هيكلة المصارف" احدى مهماتها الأساسية التدقيق بالأداء المالي للقطاع ودراسة هيكلة المصارف واقتراح الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامته.  

ثم اصدر البنك المركزي تعميم امهل فيه المصارف حتى نهاية شهر فبراير لزيادة راس المال بنسبة 20% ، و تكوين احتياطات أجنبيه لدى المصارف المراسلة بنسبة 3%  تحت طائلة الخروج من السوق للمصارف التي لا تتمكن من الامتثال. 

وكذلك طلب المركزي -  في تعميم آخر - من المصارف حث عملائها الذين حولوا الى الخارج ما يفوق عن 500 الف دولار أو ما يوازيه بالعملات الأجنبية منذ 1/7/2017 ان يعيدوا مبلغ يوازي 15% من القيمة المحولة عن طريق ايداعها في حساب خاص مجمد لمدة خمس سنوات.   

تقييم التحدي 

يتم تقييم هذه الخيارات بين كونها محاولة فعلية لإعادة النهوض بالقطاع عن طريق إعادة هيكلته أو مجرد عمليات تجميلية تسمح بإعادة رسملة فقط بدون ان تؤدي الى زيادة فعلية للسيولة في السوق اللبنانية. يعتقد مراقبون عدة ان العديد من المصارف لن تتمكن من الالتزام بهذه المعايير خاصة ان قيمة إعادة الرسملة المطلوبة تبلغ حوالي 46% من رساميل القطاع الحالية.   

بعض المصارف قد لجأت الى بيع أصولها الخارجية من اجل تأمين هذه السيولة ما قد يعطيها افضلية لتحسين وضعها في السوق. فعلى سبيل المثال تمكن المصرفان الأكبر في لبنان (بنك عودة، و لبنان والمهجر) من بيع أصولهما في مصر لصالح مصرفين اماراتيين بهدف تحسين وضعهما والتأقلم مع فجوات الأزمة اللبنانية. ومن المتوقع ان تلتحق مصارف لبنانية أخرى باستراتيجية تخفيض شبكة الانتشار الخارجي وإعادة التركيز على الداخل اللبناني في سبيل النجاة. والجدير بذكره ان المصارف قد توسعت إقليميا في زمن الازدهار حتى تمددت الى 30 بلد منها 10  عربية ومثلها أوروبية وفي تركيا وأرمينيا. 

وبالنسبة الى هذا الانتشار يمكن القول انه حان وقت العودة الى الوطن.   

اما بالنسبة للتعميم الموجه لكبار العملاء الذين قاموا بتحويل الأموال الى الخارج فعلى الاغلب سيبقي حبر على  ورق في ظل غياب قانون ضبط حركة الأموال ما يعني ان هذه التحويلات كانت قانونية. والتعميم طالب المصارف "حث" العملاء لإدراكه انه لا يوجد في لبنان قانون يلزم هؤلاء بإعادة الأموال الا اذا تم اثبات شبهة قانونية حولها.   

نقطة مهمة في عملية الرسملة 

 البنك المركزي كان  قد سمح للمصارف بإعادة تقييم العقارات التي تملكها  أو تلك التي استحوذت عليها نتيجة تعثر المقترضين واستعمال الزيادة التي حصلت في قيمة العقارات (نتيجة الطلب المتزايد عليها منذ بداية الأزمة كملجأ آمن من التضخم والسيولة المصرفية) لتأمين الزيادة المطلوبة في الرساميل. نقطة الضعف الأساسية في هذه السياسة انها تحول العملية الى مسألة دفترية ومحاسبية من غير قيمة اقتصادية حقيقية. هذا يعني انه قبل ان تتمكن المصارف من تسييل هذه العقارات فأنها لن تلحظ أي زيادة في السيولة وبالتالي لا تحسن في قدرتها على ايفاء التزاماتها للمودعين.   

اما بالنسبة الى إعادة الرسملة عن طريق الضخ المباشر لأموال المساهمين في رأس المال فدون ذلك عقبات عديدة. يتطلب الأمر أولا إرادة المساهمين الحاليين وامكانيتهم لإعادة ضخ الأموال في مصارفهم وهم حتى الآن لا يبدون متحمسين  للأمر. هذا يجعل إمكانية دخول مستثمرين جدد قبل إعادة هيكلة القطاع امر شبه مستحيل. 

ولعل اكبر دليل على ذلك المحاولات الفاشلة العديدة التي قامت بها المصارف لأقناع كبار المودعين بالمساهمة في راس المال عن طريق تحويل ودائعهم الى استثمار. على المصرفيين ان يقتنعوا عاجلا لا اجلا ان لا أحد في الداخل أو الخارج سيستثمر في مصرف لا يؤمن مساهموه الحاليون بإمكانية النجاة. كما يقول المثل الأميركي عليهم ان يضعوا أموالهم حيث يتواجد كلامهم.   

حتى اليوم يبدو القطاع مع مصرفه المركزي كمن يتخبط في الماء محاولا النجاة دون ان يدري حقا كيف يعوم. يحاول البنك المركزي ان يرسم خريطة طريق للعبور بالقطاع الى ضفة الأمان ثم ما يلبث ان يحولها الى مجموعة من الحلول المتجزأة والدفترية بلا قيمة اقتصادية.  

لن يتمكن القطاع من الصمود بدون القيام بإصلاحات حقيقية  تشمل ضخ للسيولة الحقيقية في القطاع واتفاق مع صندوق النقد.   

 لقراءة مقالات أخرى لنفس الكاتب:

لبنان.. الطريق الى جهنم 

مئوية لبنان الكبير: لحظة الانبعاث او الزوال  

هل يطلق كورونا عصر العملات المشفرة؟

لبنان في زمن التسويات الكبرى أوالحروب الكبرى

سلطنة عمان : أحلام كبيرة تصطدم بالواقع الصعب؟ 

لبنان : المصائب لا تأتي فرادى  

كورونا والكويت، كيف يبدو الوضع؟   

قرار الطرح العام أو الاستمرار كشركة خاصة.. هل هو اختيار بين جنة ونار؟ 

العراق الجريح: بلد الفرص الضائعة

لبنان إلى  أين ؟  

السودان: الصفقة والفرصة التي لا تفوت  

الكويت: الوضع الصعب

(إعداد:  محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.