"طالما لدي طموح، فإن لدي سبب للحياة. فالقناعة تعني الموت،"  جورج برنارد شو، مؤلف أيرلندي شهير، وناقد موسيقي وأدبي. 

كثير من اللحظات في حياة الأمم والأشخاص على حدٍ سواء تمر عابرة، بينما تأتي "اللحظات الفارقة" نادرة، أو قد لا تأتي على الإطلاق. وأقصد هنا "لحظات سبوتنيك" (Sputnik Moments). ورغم أن هذا الاسم يُذكرنا بلقاح "سبوتنيك في" (Sputnik V) الذي طوره العلماء الروس مؤخرًا ضد "كوفيد-19"، إلا أن هذا الاسم ليس بجديد؛ حيث تعود قصته لعقود من الزمان، وتحديدًا عام 1957.

فما قصته؟ وما طبيعة هذه اللحظات؟ هذا ما سيكشفه لنا العرض التالي. 

في 4 أكتوبر 1957، بدأ سباق لغزو الفضاء بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، كجزء من الحرب الباردة بينهما، للهيمنة على مساحة أكبر من الفضاء، عندما أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي، وهو "سبوتنيك – 1". كان ذلك سبق تاريخي له في مواجهة أمريكا، إلا أن هذا الحدث تسبب في صدمة إيجابية للجانب الأمريكي، بعد أن كان في حالة رضا عن النفس.  

وهكذا ظهر مُصطلح "لحظة سبوتنيك"، باعتباره تلك النقطة الزمنية التي يُدرك فيها الناس أنهم يواجهون تهديد أو تحدي، وأن عليهم مضاعفة جهودهم للحاق بالركب. وقتها، أنفقت الحكومة الفيدرالية مئات الملايين من الدولارات على التعليم العلمي والتقني، وأسست "الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء" (ناسا)، التي فازت في سباق الفضاء عام 1969؛ عند هبوط مهمة "أبولو 11" على سطح القمر لأول مرة في تاريخ البشرية. 

وفي 11 أغسطس 2020، سجل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لحظة جديدة، عندما أعلن أول موافقة تنظيمية للقاح ضد "كوفيد-19". ولتذكير العالم بالتفوق الروسي، سُمي اللقاح الأول عالميًا "سبوتنيك V"، وظهر الفيديو الترويجي له في رواية تُحاكي إطلاق "سبوتنيك-1"؛ حيث يظهر الفيروس مُغطيًا الكرة الأرضية بالكامل، ثم يدور "سبوتنيك V" حولها، وكل ما مر بمكان زال عنه "كوفيد-19"، حتى عاد العالم إلى سابق عهده، بدون "كوفيد-19". 

"لحظات سبوتنيك" أمريكية صينية 

بين إطلاق "سبوتنيك–1"، واعتماد "سبوتنيك–V"، هناك لحظات في حياة الأمم، ينجح البعض في اقتناصها، بينما يُخفق آخرون.

مثلًا، منذ عقد من الزمان، وتحديدًا مساء يوم 18 من يناير 2011، شهد البيض الأبيض الأمريكي عشاء ودي بين الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" والرئيس الصيني "هو جينتاو". اللافت للانتباه أنه خلال البيان المُشترك، رحب الرئيس الصيني بالولايات المتحدة الأمريكية كقوة لتحقيق الاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وأثنى الرئيس الأمريكي على الصين الناجحة، التي كانت حينها تتطلع لدور أكبر في الشؤون الدولية. 

وقتها، رفصت إدارة "أوباما" فكرة أن الصعود الصيني يضع أمريكا أمام "لحظة سبوتنيك" جديدة، وإن كان حديثها لم يخلو من التلميح بها. ففي ديسمبر 2010، صرح "أوباما" قائلًا: "عادت لحظة سبوتنيك لجيلنا. إننا بحاجة لأن نفعل ما كانت تشتهر به الولايات المتحدة الأمريكية دائمًا: البناء، والابتكار، والتعليم، وصنع الأشياء".

وبالفعل شهد العالم "لحظة سبوتنيك" في 27 مايو 2017، خلال قمة "فيوتشر جو" للألعاب، التي استضافتها مدينة وتشن الصينية، عندما أحرز نظام الذكاء الصناعي "ألفا جو" من "جوجل" فوز كبير على "كي جي" (Ke Jie)؛ بطل العالم في لعبة "جو" الصينية القديمة المعقدة.

وقتها، أعلنت الصين عن خططٍ طموحة للسيطرة على الذكاء الصناعي بحلول عام 2030. 

وفي عام 2021، حذر الرئيس "بايدن" في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، من أن الصين جادة للغاية بشأن محاولتها أن تصبح القوة الأكثر أهمية في العالم؛ حيث يراهن على "لحظة سبوتنيك" وسط قلق متزايد من تراجع القدرة التنافسية لبلاده أمام الصين؛ خاصة في مجال أشباه الموصلات. 

في المُقابل، أعلن الرئيس الصيني "شي جين بينج" في مايو 2021 أن هذا العام بداية "مرحلة تطور جديدة"، بالتركيز على "القوة" بدلًا من "الثراء"، ودشنت الحكومة الصينية رسالة مفادها "إن أمتنا تُواجه حاليًا تغيرات عميقة في البيئة المحلية والدولية، ومن الضروري الحفاظ على مستوى الابتكار، باعتباره جوهر تحديث أمتنا، مع الفهم العميق لدوره في تعزيز جهود التنمية عالية الجودة". 

رسالة ختامية 

الدرس المُستفاد هنا أن نجاح أي من الطرفين الأمريكي والصيني يعتمد على سياسته تجاه الطرف الأخر، والأكثر أهمية تغييره للشأن الداخلي؛ وهذا أمر ليس بالهيّن. وبطبيعة الحال، لا تقتصر "لحظات سبوتنيك" على القوتين العظمتين فقط، ولكنها مُتاحة لمن يقدر على اقتناصها من المحيط إلى المحيط. ولنتذكر جميعًا أن خِطاب التفوق الاستثنائي، وإنكار التنافس العالمي، لا يُؤسس "الفوز بالمستقبل". 

( المقال من إعداد: رشا مصطفى عوض، خبيرة سياسات عامة ورئيسة الإدارة المركزية لدعم القرار في مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري. وحاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد)

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط  عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.