PHOTO
حين صرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عام 2017 أن المملكة تسعى للعودة إلى "الإسلام الوسطي المعتدل"، سرعان ما استنكر رجب طيب أردوغان استخدام ولي العهد السعودي مصطلح "الإسلام المعتدل" الذي وصفه باختراع غربي.
وغرد أردوغان آنذاك على تويتر باللغة العربية "إن الإسلام واحد، ولا يوجد شيء اسمه إسلام معتدل أو غير معتدل. لا يحق لأحد أن يٌعرف ديننا كما يشاء".
يستهوي الرئيس التركي، الذي يحكم البلاد منذ عام 2002، أن يصدّر نفسه كمدافع عن الدين والأمة الإسلامية، مسترجعًا صورة الخلفاء العثمانيون الأقوياء في أذهان كثير من العرب والمسلمين، خصوصًا مع الفوضى التي صاحبت انتفاضات "الربيع العربي" منذ أواخر 2010.
وساهمت النهضة الاقتصادية التي حققها أردوغان في العقد الأول من حكمه في ترسيخ صورته كنموذج لحاكم إسلامي قوي وعادل وناجح. فقد نما الاقتصاد التركي بشكل مبهر في الفترة بين عامي 2002 و2007 بنحو 6% كل عام واستطاع ان يتعافى بسرعة من الأزمة المالية العالمية 2009/2010، محققا نمو بنسبة 8.5% في عام 2011، المعدل الأسرع في أوروبا آنذاك.
وكشفت تصرفات وسياسات أردوغان الداخلية والخارجية عن طموح سياسي كبير. منها ما يصفه مراقبون بالدعائي كتلاوته القرآن داخل متحف آيا صوفيا قبل تحويله رسميًا إلى مسجد، وحديثه عن حق تركيا في الحصول على سلاح نووي وانتقاده لإسرائيل، ومنها الحقيقي مثل مساندته الإسلاميين في مصر وليبيا وتدخله في سوريا وغيرها.
لكن مع احتدام الأزمة الاقتصادية التركية خلال العام الماضي، يجد أردوغان نفسه مضطر لتعطيل تلك الطموحات، ولو مؤقتًا، وإعادة وصل العلاقات مع دول المنطقة، خصوصًا أصحاب الدخول المرتفعة مثل الإمارات والسعودية.


"تعاني حكومة حزب العدالة والتنمية (حزب أردوغان) من أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها... لذا تعتبر هذه هي المرة الأولى التي تضعف فيها يد أردوغان في السياسة الداخلية،" بحسب تصريحات لتورغوت أوغلو، الكاتب الصحفي التركي لزاوية عربي. أردوغان "بات بحاجة إلى الدول التي أهانها في الأمس القريب للخروج من أزماته الداخلية."
وقد أعلنت السلطات التركية ارتفاع معدل التضخم إلى 48.7% في يناير 2022 من 36% في ديسمبر، وهو أعلى مستوى للتضخم منذ تولي أردوغان الحكم.
بداية المتاعب
بدأت المتاعب في 2013 مع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت بسبب قرار حكومي بقطع أشجار بجانب ساحة تقسيم الشهيرة في اسطنبول والتي سرعان ما تحولت إلى مظاهرات عارمة ضد أردوغان وحزبه. تعاملت الحكومة بشدة وعنف مع المعارضة، ما جعل أردوغان يبدو كمجرد حاكم سلطوي آخر، الأمر الذي أضعف ثقة المستثمرين في النظام التركي.
وتزامن ذلك مع تعافي ونمو اقتصادي سريع في الاقتصادات المتطورة والتي أدت إلى خروج رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة ومنها تركيا، مؤشرة ببداية الأزمة الاقتصادية التي مازالت تركيا تعاني منها حتى الآن.
وكانت الليرة قد بدأت في الانحدار بشكل مقلق منذ عام 2018 مع توتر العلاقات بين تركيا وأمريكا أثناء فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. وفي العام الماضي وحده، خسرت العملة التركية حوالي 55% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي.


ويرى علي حسين باكير، وهو كاتب ومحلل سياسي متخصص في السياسات الإقليمية لتركيا، وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة قطر، أن الجانب الاقتصادي يمثل عامل دعم لجهود التصالح الحالية بين القوى الإقليمية، لكنه ليس السبب الأساسي.
وصرح لموقع زاوية عربي قائلا "أظن أن الأسباب الدولية والاقليمية - السياسة الأمريكية الجديدة تحت قيادة بايدن واتفاق العلا - هم الأقوى... فيوجد تهدئة عامة في المنطقة".
في مطلع العام الماضي، تم إعادة العلاقات الدبلوماسية بين كل من السعودية والإمارات ومصر والبحرين مع قطر بعد نحو 3 سنوات من المقاطعة على خلفية اتهام الأخيرة بدعم الإرهاب في المنطقة، فيما يعرف باتفاق العلا بالسعودية.
ويأتي هذا وسط تكهنات بعدم رغبة الإدارة الأمريكية في الانخراط في المنطقة خلال الفترة القادمة، وذلك بعد أن انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان في وقت سابق من العام الماضي، ما يزيد من مخاوف خلق فراغ سياسي.
رهانات خاسرة
لأسباب إيدولوجية أو براغماتية، راهن أردوغان على الأحزاب الإسلامية المختلفة التي تصدرت المشهد السياسي منذ عام 2011 في مختلف دول المنطقة. وأدى ذلك إلى توتر علاقات تركيا مع السعودية والإمارات، أكبر اقتصادات المنطقة، بالإضافة إلى مصر التي لم يستمر فيها حكم الإخوان المسلمين كثيرًا. وبقت قطر التي انتهجت نهج مشابه الحليف الوحيد لتركيا.
وتزامن ذلك الرهان مع تزايد التوتر مع إسرائيل والولايات المتحدة على المستوى السياسي.
ففي ملفات مختلفة، اتسمت السياسة الخارجية التركية بعدم الموائمة والتصريحات الهجومية، حيث يصف أردوغان اسرائيل ب"دولة الإرهاب" بشكل متكرر، أبرزها رمضان الماضي في كلمة له بعد تناوله إفطار رمضان مع عدد من "أمهات ديار بكر"، وهو تجمع يضم مجموعة من السيدات يقولون إن أبنائهن تم اختطافهم للقتال لدى تنظيم "بي ك ك" الكردي التركي والذي يطالب بحكم مستقل وينشط في تركيا والعراق.
وقال الرئيس التركي: "ندين بشدة اعتداءات إسرائيل السافرة على المسجد الأقصى المتكررة كل عام في شهر رمضان... إسرائيل دولة إرهاب وظالمة،" معقبا على الاشتباكات التي درات حينها بين إسرائيل وفلسطين بعد اجتياح قوات الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى والتي أدت إلى إطلاق صواريخ من غزة على إسرائيل لترد الأخيرة بغارة عسكرية على القطاع.


حاضر فرض عواصم
تل أبيب
قال جنكيز أكتار المحلل والكاتب السياسي التركي، وهو أستاذ في العلوم السياسية في جامعة أثينا في اليونان، لموقع زاوية عربي "على الرغم من الخطاب القاسي المستمر بين تل أبيب وأنقرة، فإن الصفقات الاقتصادية والاستراتيجية لم تتوقف على الإطلاق منذ عام 1948."
"وسيستمر الخطاب كما كان من قبل بينما تستمر هذه العلاقات (الاقتصادية) في الازدهار. لا يهتم أي من البلدين بأي تكامل لوجهات النظر السياسية" بينهما، وفقا لأكتار.
ويشير أوغلو، الكاتب الصحفي التركي، أن "سبب العلاقات السياسية المتدنية هو أن الرئيس رجب طيب أردوغان اضطر إلى توحيد قاعدته الانتخابية" عام 2018 حين فاز بفترة رئاسة ثانية.
"في مسعى لتحقيق هذا الغرض استخدم أردوغان لغة عنيفة ضد إسرائيل، ومع أن مضمون ومقتضى هذه اللغة العنترية لم يتحول إلى أرض الواقع أبدا، لكنه حقق هدف رص صفوف مؤيديه إلى اليوم."
وبعيدا عن السياسة، تجمع تركيا وإسرائيل علاقات تجارية لصيقة. فمثلًا، صدرت تركيا بضائع بـ 4.7 مليارات دولار إلى إسرائيل عام 2020، وهي تحتل المرتبة التاسعة بين أكبر المصدرين إلى تل أبيب.
وأعلن أردوغان في شهر يناير أن رئيس إسرائيل إسحاق هيرتسوغ يمكن أن يزور تركيا قريبا، مشيرا إلى أن إمكانية إبرام صفقة طاقة بين البلدين. وإذا تمت الزيارة، ستكون الأولى من قبل مسئول إسرائيلي رفيع المستوى لانقرة منذ 2014.
أبوظبي والرياض
في نوفمبر زار ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان تركيا حيث تم الإعلان عن توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مختلف القطاعات وتأسيس صندوق بقيمة 10 مليار دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.
جاءت تلك الخطوة عقب قطيعة سياسية بين البلدين لما يقرب من عقد، شهد البلدان خلالها الكثير من التوتر، منها اتهام تركيا للإمارات بمساندة محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان في 2016، وتهديد الأخير بسحب سفير تركيا لدى أبو ظبي بعد أن وقعت كل من الإمارات وإسرائيل اتفاقية سلام في 2020.
مؤخرا أيضا قال أردوغان إنه سيزور السعودية في شهر فبراير. في حال إتمام الزيارة، ستكون الأولى له منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018 في قنصلية بلاده في إسطنبول، الأمر الذي أدى إلى زيادة التوتر بين البلدين وعلى إثر ذلك انطلقت حملات مقاطعة البضائع التركية في السعودية.
القاهرة
يقول باكير أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قطر إن تحسن العلاقات بين تركيا والإمارات، والسعودية من بعدها اذا تمت زيارة أردوغان في فبراير، من الممكن أن يساهم في تجاوز الخلافات بين أنقرة والقاهرة.
وقال "تطبيع العلاقات بين الإمارات وتركيا يزيد من الضغط على القاهرة" لتطبيع العلاقات.
وشهد العام الماضي خطوات لتحسين العلاقات بين تركيا مصر، والتي تدهورت لسنوات عقب الاطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي، أحد الحلفاء المقربين لتركيا من جماعة الإخوان المسلمين، في عام 2013.
وبدأت المحادثات بين البلدين في العام الماضي بعد توقف العلاقات لمدة حوالي ثمانية أعوام، وتطرقت الى عدة ملفات منها الإخوان المسلمين المقيمين في تركيا.
وقامت تركيا عقب المحادثات بإغلاق قنوات إعلامية محسوبة على الإخوان، إلا أن القاهرة لا تزال تضغط من أجل إجراءات أكثر حسما ضد الجماعة، حيث نقلت قناة العربية السعودية في أبريل الماضي عن مصادر أن القاهرة طالبت بتسليم القياديين الإخوانيين يحيى موسى وعلاء السماحي لكن تركيا طلبت التمهل.
ويصف أكتار المحلل والكاتب السياسي التركي علاقة تركيا والقاهرة بالتناقض.
وقال "فمن جانب تتبنى انقرة خطاب تصالحي ومن جانب آخر تستمر.. في إغضاب القاهرة"، مشيرا إلى استضافتها لكوادر إخوانية حتى الوقت الحالي ومساندة اثيوبيا عسكريا في الوقت الذي يتزايد فيه التوتر بين الأخيرة ومصر بسبب سد النهضة.
وكان رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد قد وقع اتفاقية تعاون عسكري مع أردوغان أثناء زيارته لأنقرة في أغسطس الماضي.
وتتحد مصر مع قبرص واليونان في أزمة شرق المتوسط ضد تركيا، حيث أصدر البلدان الثلاثة بيان مشترك في أكتوبر الماضي يدعون فيه تركيا لاحترام القانون الدولي وتوقف الأعمال الأحادية.
ويدور الصراع التركي اليوناني حول السيادة على موارد النفط والغاز في شرق المتوسط، بناء على وجهات نظر متضاربة.
المستقبل
وفي آخر كتبه The Turkish Malaise، أو التوعك التركي والذي نشر في لندن، يقول أكتار إنه من الصعب التكهن بمستقبل تركيا.
ويتساءل الكاتب "من كان يمكنه أن يتوقع المنحنى التي اتخذته (تركيا) في السنوات القريبة الماضية بعد أن كانت نجم ساطع في بداية الألفينات، مرشحة للانضمام إلى النادي (الاتحاد) الأوروبي، ومثال يحتذى به خاصة للبلاد المسلمة التي تبحث عن العدل والازدهار؟"
(إعداد: شريف طارق، ويعمل شريف مع أهرام اونلاين وافريكا ربورت، وهو أيضا رئيس تحرير نشرة دلتا دايجست، وقد عمل سابقا في مؤسسات إعلامية أخرى من بينها لوس أنجلوس تايمز)
(تحرير أحمد فتيحة: ahmed.feteha@refinitiv.com)
#تحليلمطول
© ZAWYA 2022
بيان إخلاء مسؤولية منصة زاوية
يتم توفير مقالات منصة زاوية لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي نصائح قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء تتعلق بملاءمة أو قيمة ربحية أو استراتيجية سواء كانت استثمارية أو متعلقة بمحفظة الأعمال . للشروط والأحكام