17 أكتوبر هو اليوم الذي انطلقت فيه احتجاجات شعبية على الوضع المعيشي في لبنان. 

3 سنوات على بداية الأزمة التي تعددت أوجهها منها الاقتصادي والمالي والنقدي وصنفها البنك الدولي بأنها إحدى أسوأ الازمات التي مر بها العالم منذ العام 1850. 

ولكن الأزمة المصرفية هي الأبرز لا سيما مصير الودائع التي لا تزال محتجزة بعد أن فرضت المصارف اللبنانية قيود على سحبها.

وعلى الرغم من أن عموم الناس يربط أزمة الودائع باحتجاجات 17 أكتوبر، إلا أن بذور الأزمة تسبق ذلك بكثير. 

فكيف كانت البدايات؟ 

بعد انتهاء الحرب الاهلية وبداية مشروع إعادة بناء الدولة والاعمار لجأت الحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى الاستدانة بفوائد عالية جدا بلغت حد الـ 40% نتيجة المخاطر الكبيرة المحدقة بالبلاد. 

ومع ارتفاع تكلفة الديون والعجز المالي المستمر، تحولت الدولة إلى الاستدانة بالدولار بهدف تخفيض الفوائد وتثبيت سعر الصرف لجذب الأموال من الخارج. شهدت الفترة هدر وفساد كبير ترافق مع الاستمرار في عجز المالية العامة وارتفاع نسبة الدين حتى تخطت نسبته الـ 170% من الناتج المحلي، بحسب تقديرات صندوق النقد لعام 2005. 

اهتز النظام المالي المصرفي اللبناني خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في العام 2005 والاضطرابات الأمنية والنقدية التي تبعته إلا أنه لم ينهار، بل على العكس من ذلك أنقذته الأزمة المالية العالمية في 2008. 

انتعشت مصارف لبنان ما بين 2008 و2011 مع انفجار الازمة المالية العالمية والتنازل عن السرية المصرفية الأوروبية ما دفع رؤوس الأموال إلى لبنان وبلغت الودائع المصرفية في لبنان أرقام قياسية وباتت أضعاف الناتج المحلي اللبناني. 

لكن الفورة لم تدم طويلا. مع اندلاع الحرب السورية واضطراب العلاقات العربية اللبنانية بدأت رؤوس الأموال تأخذ منحى معاكس. ومع تفاقم أزمة الدين العام المستمرة منذ سنوات، وعجز الميزانية العامة واستشراء الفساد والهدر، بدأ البنك المركزي باللجوء إلى سياسة أعطاها اسم رنان "الهندسات المالية" راكمت للمصارف أرباح دفترية هائلة، وشكلت إحدى الأسباب الرئيسية للأزمة. 

ومنذ العام 2016 طلب البنك المركزي من المصارف استقطاب ودائع بالدولار من العرب والأجانب والاغتراب اللبناني مقابل فوائد خيالية بلغت أكثر من 20%.  في المقابل، قام البنك المركزي بإنفاق هذه الودائع عبر إقراضها للدولة على مشاريع غير منتجة وهادرة للمال العام، وتثبيت سعر الصرف، ودعم المواد الأساسية  كالمحروقات والأدوية. 

وبالتالي لم تعد هذه الأموال موجودة عندما طالب بها أصحابها وهذا ما حدث بالفعل.

مثلث التاء 

تقدر قيمة الفجوة المالية في القطاع المصرفي نحو 69 مليار دولار، بحسب سعادة الشامي، نائب رئيس الحكومة ورئيس لجنة التفاوض مع صندوق النقد. ويدور الصراع الحالي حول من سيتحمل هذه الخسارة بين الدولة، والقطاع المصرفي، والمودعين. يعمل الجهاز المصرفي باستراتيجية غير معلنة -وقد تصبح رسمية- وبشكل دؤوب منذ ثلاث سنوات على تحميل الخسارة للمودعين عبر اتباع استراتيجية يمكننا تسميتها بـ "مثلث التاء." 

فكيف يتم ذلك؟

منذ بداية الأزمة يتعامل النظام المصرفي اللبناني مع المودعين عبر استراتيجية تقوم على ثلاث قواعد رئيسية تبدأ جميعها بحرف التاء (مثلث التاء). التقسيط والتضخم والتليير (أي تحويل الودائع إلى ليرة وهي العملة المحلية اللبنانية). ويبدو أن هذا التوجه ما زال مستمر بناء على ما تم تسريبه من خطة إعادة هيكلة النظام المصرفي. تهدف الخطة إلى إحياء القطاع المصرفي "الزومبي" (في حالة غيبوبة) من خلال جعل المودعين يتحملون أكثر من نصف الفجوة المالية. 

عمل البنك المركزي مع المصارف خلال سنوات الأزمة الثلاث على التخلص من الودائع الصغيرة (بضعة الآلاف من الدولارات) عبر تقسيطها وتحويلها إلي الليرة عبر مجموعة من التعاميم الصادرة عن البنك المركزي.

ففي البداية تم السماح للمودعين بسحب جزء من أموالهم على معدل 3900 ليرة للدولار الواحد عندما كان سعر الصرف في السوق الموازية حوالى 8000 ليرة للدولار أي بنسبة خصم بلغت معدل 50%.

وعندما ارتفع سعر الصرف فوق 20,000 لليرة، تم تعديل السحوبات إلى 8000 ليرة مقابل الدولار وبقى بالرغم من سعر الصرف اليوم فاق 40,000 ليرة للدولار الواحد. 

ثم أصدر البنك المركزي تعميم آخر يسمح للمودعين "المؤهلين" شهريا بـ 400 دولار نقدي و400 أخرى تحول إلى الليرة على معدل 12000 ليرة مقابل الدولار. 

كل تلك التعاميم ساهمت في التخلص من جزء كبير من ودائع الدولار لدى المصارف قبل أن تتحول ألى البحث عن طرق لتذويب ما تبقى من الودائع الكبيرة. 

بناء على خطة إعادة الهيكلة تتحمل الدولة والمصارف والبنك المركزي حوالي 30 مليار دولار فقط (من الفجوة المقدرة بـ 69 مليار دولار)، في حين يتم توزيع الباقي على المودعين عبر تحويل جزء كبير من الودائع بالدولار إلى الليرة بمعدل أقل بكثير من قيمتها في السوق (والتي تخطت 40,000 ليرة مقابل الدولار هذا الأسبوع) ما يجعل قيمتها الحقيقية وقدرتها الشرائية اقل بكثير من القيمة السوقية أي أن المودعين سيتحملون هيركات او نسبة خصم كبيرة على أموالهم الدولارية. 

تقول الخطة إنها ستقوم بحماية صغار المودعين عبر ضمان الودائع إلى حد 100 ألف دولار. وقد يتم تقسيطها والتعامل معها على مراحل خلال 10 سنوات. أما بالنسبة إلى المبالغ التي تفوق هذا الحد فتسعى الحكومة إما إلى تسديدها بالليرة اللبنانية مع نسبة خصم كبيرة مع ما يرافق ذلك من تضخم هائل يفاقم تآكل القدرة الشرائية نتيجة ارتفاع الكتلة النقدية الكبيرة بالليرة، او عبر اقناع أصحابها باستبدال قيمة ودائعهم بأسهم في هذه المصارف. 

ولكن السؤال يبقى هل هناك مودع مستعد أن يبدل وديعته مقابل أسهم في مصارف عاجزة مع احتمالية كبيرة بعدم قدرتها على تخطي إعادة الهيكلة؟ 

تعمل خطة الحكومة على إعادة تقييم أصول المصارف كل على حدة، ثم العمل على إعادة رسملة المصارف التي تصنف "قابلة للاستمرار"، ما يعنى انه سيطلب من المساهمين السابقين والجدد الإلتزام بضخ رأس مال جديد. 

أما البنوك غير القابلة للاستمرار فسيتم حلها وتصفيتها بموجب القانون الطارئ لإعادة هيكلة المصارف من غير ان تحدد الخطة ماذا سيحل بأموال المودعين إذا ما لم تكن أصول هذه المصارف -وهي الأغلب كذلك- كافية لإعادة الودائع. 

كذلك يبقى السؤال حول ما سيكون موقف صندوق النقد من خطة إعادة الهيكلة وهي من المطالب الأساسية التي يطالب بها الصندوق لإقرار أي اتفاق مع لبنان. 

هذا مع العلم أن صندوق النقد كان قد امتدح خطة حكومة حسان دياب السابقة والتي رفضتها جميعة المصارف واعتبرتها مجحفة كونها حملت جزء كبير من الخسائر للمصارف بدلا من المودعين. 

كل الحلول مطروحة وما يتم مناقشته في لبنان اليوم يدور بشكل أو بآخر حول تحميل تكلفة خسائر القطاع المالي على عموم الناس وبهدف البحث عن طرق ووسائل لإنقاذ مجموعة من المصارف أساءت إدارة أموال المودعين وغامرت فيها بهندسات البنك المركزي سعيا لأرباح خيالية. 

تقول المصارف إنها تؤيد توزيع عادل للخسائر، ولكن في علم المال والأعمال يتحمل الخسائر من ارتكبها.  فهل قامت المصارف بتوزيع عادل للأرباح، حتى تقوم بتوزيع عادل للخسائر.

المصارف تريد أن تكون رأسمالية في أرباحها وشيوعية في خسائرها فهل يقبل صندوق النقد؟

 

(إعداد:  محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)  
 
#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)