19 10 2017

دبي، الإمارات العربية المتحدة.

يمر المخزون العالمي لإدارة الأموال بفترة من الإصلاح الجذري في ظل التطورات الأخيرة في التقنية المالية. واتضح هذا الأمر أكثر مع ظهور العملات المشفرة مثل "بيتكوين"، التي أدخلت نظامًا فوضويًا لتراكم الأموال وتخزينها ونقلها.

لم تؤت "بيتكوين" ثمارها نسبيًا إلا في الآونة الأخيرة منذ 2009؛ ونظرًا لطبيعتها المستحدثة وغير المنظمة إلى حد كبير، لا تزال الحكومات تتصارع مع الآثار القانونية والمالية المرتبطة بالعملات الافتراضية، كما تواجه الحكومات خيارًا صعبًا ما بين وضع ضمانات فعالة ضد التهديدات الجديدة التي ينطوي عليها التعامل مع العملات عبر الإنترنت، أو تقييد تطويرها واستخدامها في الحدود التي يمكن التحكم فيها. وقد أعلن عدد قليل من البلدان نهجًا قانونيًا محددًا لإدماج "بيتكوين" وغيرها من العملات المشفرة في هياكلها التنظيمية، وذلك بسبب الشكوك المنتشرة حول إمكانية تحقيق التوازن بين المنافع المحتملة وأية مخاطر قد تضر بسلامة نظمها المالية. وبالمثل، يجب على الأفراد الذين يُصرّون على غمس أصابع قدمهم في المياه الافتراضية أن يكونوا على علم بالمخاطر والتقلبات التي قد تنتج عن التعامل مع العملات المشفرة.  

كيف تعمل "بيتكوينز" وأين تنشأ المضاعفات؟

تُعرَف "بيتكوين" باسم العملات المشفرة، وهي وسيلة للتبادل يتم إنشاؤها على شبكة الدفع الرقمية؛ وبعبارة أخرى، هي النقد الافتراضي غير الملموس تمامًا والذي يتم تخزينه على الإنترنت. وهي مثل العملة العادية، يمكن أن تُستخدم لشراء الأشياء إلكترونيًا، وتعمل بطريقة مماثلة لفئات العملات التقليدية من الدولارات واليورو أو الين، والتي يتم تداولها أيضا رقميًا.

ومع ذلك، فإن واحدة من أهم خصائص "بيتكوين" والعامل المميز لها، هو أنها لامركزية. فلا توجد مؤسسة واحدة تسيطر على شبكة "بيتكوين" لترصد أو تسوي المعاملات، أو تسيطر على عملات افتراضية تخص أشخاصًا آخرين؛ وهذا إغراء واضح للعديد من هؤلاء الذين يحتجون على فكرة أن البنوك يمكن أن تسيطر على أموالهم أو تقييد تدفقها، ولكن "بيتكوين" تفتقد للحماية الممنوحة للأموال التي يتم الإشراف عليها في النظام المصرفي التقليدي. وبما أنها لا تطبع نقودًا ملموسة فهي لا تقع تحت الرقابة الصارمة للبنك المركزي، على عكس العملات المادية التي لا يمكن التلاعب بها من قبل السلطات المالية. كانت قيمة الطلب ثابتة، لذلك فإن بيتكويز تعود قيمتها لأنها أصبحت تستخدم على نطاق واسع. بهذه الطريقة، فإن وظيفة بيتكوين تشبه إلى حد كبير سلعة من العملة التقليدية، حيث يتم التضحية بالاستقرار في القيمة مقابل التأمين ضد التلاعب.

وهناك ثلاث نقاط رئيسية في كيفية عمل العملات المشفرة تميزها عن العملات المادية المدعومة من الحكومة. أولًا، هي تعمل في نظام لا مركزي تمامًا، يخلو من أي سلطة مركزية؛ فهي وحدات يحتفظ بها أصحابها الأفراد، وعادة ما تنقل مباشرة لشيء مقابل شيء دون الحاجة إلى خدمات وسيط بشري. ثانيًا، إن الملكية على "بيتكوينز" وسجلات التحويلات تعتبر مجهولة تمامًا، حيث يمكن للمستخدمين الإمساك بعناوين "بيتكوين" متعددة لا ترتبط بأية معلومات شخصية قد تقود إلى تحديد الأطراف ذات الصلة. وعلى الرغم من هذا العنصر من الإخفاء، فإن البرمجيات نفسها لا تزال شفافة تمامًا، حيث يتم تخزين تفاصيل كل معاملة واحدة كرمز في الشبكة في نسخة افتراضية هائلة من دفتر الأستاذ العام المعروف باسم "بلوكشين". وأخيرًا، فإن معاملات "بيتكوين" غير قابلة للإنكار تمامًا، وهذا يعني أنه بمجرد أن يتم إرسالها فإنه من المستحيل عكس الصفقة لاستردادها ما لم يوافق المتلقي على إعادتها في معاملة جديدة. 

على الرغم من أن هذه الميزات تم الإشادة بها لدورها في تبسيط الإجراءات وزيادة الاستقلالية في مسائل الإدارة المالية، إلا أن هناك عدد من المخاطر المرتبطة بها، والتي تقلل إلى حد كبير من تفضيل نظام بيتكوين؛ حيث يتم منح السيطرة الكاملة على المعاملات لكل فرد، بما يعطي القليل من الاعتبار لكيفية حماية الأموال، وخاصة بالنظر إلى عدم الكشف عن الهوية وعدم رجعية كل معاملة فيه. وعلاوة على ذلك، لا تستفيد "بيتكوينز" من أي من التدابير الأمنية التي تمنح للعملات العادية، وبالتالي فإنها تخلق سوقًا صالحًا للاستغلال.

وفي غياب التنظيم، لا تزال العديد من الدول تشعر بالقلق، لأن خصائص بيتكوين الفريدة ستسهل ارتكاب الجرائم المالية، ولاسيما غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وتستند المخاوف في الغالب إلى الإغراء الواضح للعصابات الإجرامية، حيث أن المعاملات لا حدود لها ومخفية، مما يعيق التحليل الدقيق لمظاهر التهديد. ومع ذلك، هناك بعض المؤشرات المبكرة التي تشير إلى أن احتمال إساءة استخدام العملات المشفرة هو احتمال متزايد، بدلًا من أن يكون احتمالًا غير مرجح؛ فهناك زيادة مستمرة في القضايا التي تنطوي على حالات ابتزاز للعملاء بمعلومات حساسة مسروقة وطلب فدية في شكل بيتكوين، ويؤدي عدم وجود قانون واجب التطبيق إلى جعل عملية مقاضاة الجاني مسألة معقدة. 

وفي ضوء ذلك، نرى أهمية أن تتخذ الحكومات نهجًا استباقيًا للتعامل مع "بيتكوين"؛ سواء كان ذلك من خلال تطبيق القوانين القائمة على العملات المشفرة، أو إدخال تشريعات جديدة لتنظيم السوق الافتراضي، فإن إبقاء الناس على جهل بشأن المكانة الرسمية لـ"بيتكوينز" سيترك الحكومات غير مجهزة بشكل مناسب لحماية اقتصاداتها من المخاطر الكامنة في التعامل مع العملات غير المنضبطة والعملات التي لم يتم التحقق منها.  

الاستجابات القضائية في الشرق الأوسط

على الصعيد الوطني، نجد أن مصرف الإمارات المركزي قدم بعض المؤشرات الأولية لموقف الحكومة من استخدام "بيتكوين" في ولايتها القضائية. ففي اللوائح الصادرة في 1 يناير 2017، أشار المصرف المركزي إلى أنه لا يحظر التعامل بالعملات الافتراضية مثل "بيتكوين"، لكن في نفس الوقت لا توجد أي ضوابط قائمة لتنظيم هذه العملية. ومع ذلك، أبلغ محافظ مصرف الإمارات المركزي وسائل الإعلام بأن العملات الافتراضية قيد المراجعة حاليًا من قبل المصرف المركزي، وأنه سوف تصدر لوائح جديدة حسب الاقتضاء. وهذا يشير إلى أن مصرف الإمارات المركزي لم يشكل رأيًا واضحًا بعد بشأن سلامة التعامل مع بيتكوين، أو بشأن تأثيرها المحتمل على السلامة الاقتصادية للدولة. ورغم أن استخدام العملات المشفرة غير قانوني في الوقت الراهن، إلا أن الأفراد يقبلون تحمل كافة المخاطر دون أي شكل من أشكال الحماية المالية؛ ومن شأن أي تغيير في موقف دولة الإمارات بشأن هذه المسألة أن ينطوي على فرض ضوابط أكثر صرامة على استخدامها.

وفي الوقت الراهن، يمثل هذا الموقف الإماراتي نهجًا أكثر تساهلاً من النهج الذي تم اتخاذه في ولايات قضائية إقليمية أخرى. ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تشير التقارير إلى أن مؤسسة النقد العربي السعودي قد عمدت بنشاط إلى منع استخدام "بيتكوين" باعتبارها عملة لم يتم التحقق منها، بسبب المخاطر الكامنة في التعامل مع كيان غير خاضع للرقابة. وعلى الرغم من أن هذا الموقف قد تمت مراجعته فيما بعد بمجرد إنشاء أفضل الممارسات لتنظيم العملات المشفرة، فهو في الوقت الراهن دلالة على ملامح الحذر الطبيعية التي تشعر بها بعض الحكومات حول عدم مركزية النشاط المالي المجهول. 

وقد أشار البنك المركزي الأردني إلى موقف مماثل، مؤكدًا أن "بيتكوين" لا تعتبر مناقصة قانونية، كما أنها تنطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة للمستثمرين من حيث تخفيض قيمة العملة والجريمة المالية. كما شدد على أن "بيتكوين" لا تضمنها الأصول المادية الأساسية، وليس هناك مصرف في العالم ملزم بتبادل الوحدات الافتراضية للعملة الحقيقية؛ كما أصدر البنك المركزي الأردني تعميمات لمنع جميع المؤسسات المالية الوطنية من التعامل مع العملات الافتراضية. كما تطلق المزيد من القوى المجاورة المبادئ التوجيهية الخاصة بها لاستخدام "بيتكوين"، فإنه سيكون من الممكن تمييز ما إذا كان الاتجاه الإقليمي يفضل نهج تلافي المخاطر، أو أنه سيكون أكثر انفتاحًا بحذر.

وبعيدًا عن منطقة الشرق الأوسط، هناك بلدان معينة لا يُسمح فيها بالتعامل بعملة "بيتكوين" فحسب، بل تطورت لتصبح حدثًا أكثر شيوعًا. ففي 1 يناير 2015 مع تنفيذ القانون أ. ب. 129، أصبحت ولاية كاليفورنيا أول ولاية أمريكية تُشرِّع وتضفي الصبغة القانونية تمامًا على استخدام العملات الرقمية، باعتبارها شكلًا من أشكال الدفع القابلة للاستخدام. وبالمثل، فإن موقف الحكومة الرسمي في ألمانيا هو القبول المفتوح وليس التقييد. وفي ديسمبر 2013 صنفت هيئة الرقابة المالية الاتحادية في ألمانيا "بيتكوين" باعتبارها وحدة معترف بها لحساب الوسائل الخاصة للدفع، ولا تخضع استخدامها باعتبارها عملة بديلة للتنظيم.

إن التداول في "بيتكوين" مسموح به في ألمانيا، لكنه يتطلب ترخيصًا من هيئة الرقابة المالية الاتحادية. وعلى الرغم من أن هيئة الرقابة المالية الاتحادية كانت أيضًا حريصة على تحذير مستخدمي بيتكوين من المخاطر المصاحبة، في اعتماد مثل هذا النهج المفتوح، فإن الاقتصاد الألماني أيضًا أعطى دروسًا قيمة للولايات القضائية الأخرى التي تعتبر غير متأكدة من كيفية معالجة القضية المتنامية بشأن استخدام "بيتكوين". وستعطي الفوائد والمخاطر التي تم تحديدها من خلال تجربة ألمانيا إشارة أكثر تجريبية عن كيفية تفاعل العملات المشفرة مع النشاط غير المشروع والأمن الاقتصادي.

وفي الختام، فإن مرحلة البداية في "بيتكوين" تضعها في منطقة رمادية تتعلق بالمخاطر والتنظيم؛ وكما هو الحال مع جميع عناصر التكنولوجيا المبتكرة، يتم تقليل القبول المبكر لهذه العملات بحذر، إلى أن يتم فهم تعقيدات وظائفها بشكل أفضل. وقد تثير سماتها البارزة بعض الأفراد للقفز من سفينة الخدمات المصرفية التقليدية، ولكن القيام بذلك دون تقدير المخاطر المرتبطة بها أمر غير مستحسن؛ وهذه الميزات نفسها التي تجذب المستخدمين الشرعيين تحتوي على إغراء قوي لسمات أقل في القبول.

إن طبيعة "بيتكوين" غير المنظمة توفر الكثير من الفرص للاستغلال على أيدي المجرمين؛ وبالنظر إلى المستقبل، سيحتاج مستخدمو "بيتكوين" أيضًا أن يكونوا على علم بالتضاريس القانونية الهشة تحت أقدامهم، والتي قد تصبح مناطق زلزالية بمجرد توضيح إعلان الولايات القضائية نهجها لتنظيم التعاملات بمثل هذه العملات. ونجد في الوقت الراهن، أن الحماية الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها ضد المخاطر هي التسلح بالوعي، وممارسة درجة ملائمة من التدبر والتفكير قبل المغامرة بالدخول في العالم المظلم للعملات المشفرة.

© Al Tamimi & Company 2017